قراءة في كتاب تركيب وتحيين:إشكالية الخريطة:3

تجدر الإشارة إلى أن الكتاب، ومنه الفصلان الثامن والتاسع، يزخر بالجداول والإحصائيات والوثائق البصرية أو الإيقونوغرافية. فهو يحتوي على 166 شكلا مرسوما و مصوراً، بالإضافة إلى 37 خريطة. وهذه كلها أدوات ووسائل تعبر عن عمق العلاقة بين البحث التاريخي وبيداغوجية الصورة. أما الأدوات الخرائطية، التي تعد من أقوى مرتكزات الكتاب، فقد كانت بالإضافة إلى ذلك، من أهم العناصر المعبرة عن عمق العلاقة بين التاريخ والمجال. انسجاما مع هذا المعطي، الذي يرمز لحضور هاجس الجغرافيا في الكتاب، جرى التأكيد منذ البداية (المقدمة، ص1)على”أهمية البعد المجالي” وعلاقته بـ” البعد الزمي”. ودعما لهذه الرؤية، خصص الفصل الأول، الذي يحمل عنوان :”من الدينامية الطبيعية إلى المجال التراب”(ص5 – 34)، لدراسة المجال الجغرافي ومراحل تشكله والتأثيرات المناخية و”الهشاشة الديمغرافية” وعلاقة المغاربة بالبحر… ونتيجة لذلك، تضمن الفصل الكثير من العناصر ذات الصلة الوثيقة بالفصلين، نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر، المعطيات المتعلقة بالخرائطية وتمثل المجال، و”محاولات تنظيم التراب”،والعلاقة بين اتساع المجال ووسائل السيطرة السياسية. وتأسيسا على هذه الاعتبارات، كان الحرص قويا، منذ البداية، وفي صفحات مختلفة من الكتاب، على الربط بين الهوية والمجال والتاريخ، من خلال التأكيد على “الوحدة المجالية” و”الانسجام الذاتي”(الفصل7، ص 371). وكانت الخرائط من الأدوات المدعمة لهذا التصور المجالي للمغرب. بدا هذا التصور واضحا في الفصول الأولى من الكتاب، التي بينت من خلال خريطة المرابطين والموحدين، مثلا، بأن حدود المغرب كانت تصل جنوبا إلى وادي السينغال (ص 169) . ووردت في الكتاب معلومات تدعم هذا المعطى، نذكر منها على سبيل المثال الإشارات الواردة في الفصل السابع، والمتعلقة بالدعم العسكري الذي قدمه السلطان مولاي إسماعيل إلى أمير الترارزة سنة 1724. وقد ذكر، في هذا السياق، بأن الغاية من هذا الدعم “مقاومة الحضور الفرنسي على الضفة اليسرى لنهر السينغال…”. والدفاع “عن مجال مغربي”، تستعمل فيه ” العملة والمكاييل والأوزان… (الـ)مغربية”( ص421-422)[2]. بيد أن هذا التصور أصبح، ابتداءً من الفصل الثامن، عرضة للخلل والالتباس. فخرائط هذا الفصل، وهي في معظمها مقتبسة من كتب أخرى، تطرح علينا أسئلة تستدعي الوقوف عندها وتعميق النقاش فيها، لأنها ترمز لما يكتنف تصور المجال وامتداداته، في ارتباطه بقضايا الحدود أو الهوامش والأطراف، من التباسات مثيرة للاستغراب. وأهم نقطة تثير الانتباه في هذا الصدد، ترتبط باستعمال الفصول الثلاثة الأخيرة لإطار خريطة مغرب اليوم، بحدوده الحالية التي ما زالت مثار شد وجذب، كأن امتداد التراب المغربي، من القرن التاسع عشر إلى الآن، لم يتغير، ولو بشبر واحد. كيف يمكن أن نمحو من خريطة هذا القرن شنكيط وتيندوف وتوات التي لم تقتطع من المجال المغربي إلا على مراحل، ابتداءً من سنة 1899؟ وكيف نتعامل، من هذا المنظور، مع خريطة ” المغرب التاريخي” التي تشبث بها الوطنيون في مغرب الاستقلال وحاول جيش تحرير الصحراء، الذي وصل بعملياته الحربية إلى موريتانيا الحالية، بلورتها على أرضية الواقع، بالسعي إلى استرجاع المجالات المغتصبة، التي لم يراوده أي شك في مغربيتها. تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن هذه الالتباسات المثيرة للتساؤل موجودة أيضا في دراسات وكتابات مغربية مختلفة[3]، ومنها المؤلف الجماعي عن “تاريخ المغرب” الصادر سنة 1967[4]. فهذا الكتاب، المدافع عن الرؤية الوطنية للتاريخ، والهادف إلى تزويد الطالب والباحث المبتدئ بالمادة التي تساعده على استيعاب التاريخ الوطني، استعمل الخرائط بشكل ملحوظ. لكن المقاربة المتبعة في هذا الشأن كانت حذرة، بحيث أننا لن نجد في صفحاته الخاصة بالتاريخ المعاصر أي خريطة للمغرب في حدوده التاريخية، التي تحتضن في امتدادها بلاد شنكيط (بلاد البيضان) وتيندوف وتوات … وبموازاة ذلك، لا يتحدث الكتاب في الغالب، في ملامسته للقرن التاسع عشر إلا عن مجال محدود جنوبا بوادي درعة، ولا تفسح خرائطه المجال لفضاءات أوسع إلا عندما يتعلق الأمر بالمسالك التجارية التي تصل المغرب بالعوالم المحيطة به. المفارقة المثيرة للانتباه في هذا الباب، تتمثل في أن هذا التصور، الذي يقلص من مساحة المجال المغربي في القرن التاسع عشر، صمد بقوة، بالرغم من النقاش السياسي والدبلوماسي المثار حول الموضوع ، ومن تكاثر الأحاديث والدراسات عن المقاومة في الجهات التي بترت من المغرب في ظروف الاستعمار، ومنها ما كتبه علال الخديمي، تحت عنوان “مقاومة القبائل الصحراوية للاحتلال الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين”. فقد ألح فيه، بالاستناد إلى ” الحقائق التاريخية “، على أن المقصود بـ” جنوب المغرب”، في تلك الفترة، هو “الجنوب الصحراوي إلى حدود السينغال”[5]. وهذا الطرح لا يتناقض مع ما سبق أن ذكره المرحوم محمد المنوني، في سياق حديثه عن سياسة المغرب الخارجية بعد سنة 1860، إذ أكد بأن أهداف هذه السياسة تتمثل في “المحافظة على حدود المغرب التاريخية…في سائر جهاتها”، وأول هذه الجهات “إقليم شنجيط الذي استمر حتى هذا العهد نافذا فيه حكم ملوك المغرب إلى نهر السينغال”[6]. من البديهي أن نسيان هذه “الحقائق”، التي ترمز لما تعرضت له من بتر واقتطاع أراضي واسعة ـ كانت منتمية بشكل من الأشكال للمجال المغربي، يعني انتزاع مساحات واسعة من تراثنا وذاكرتنا الجماعية والتاريخية. والأدهي أن هذا “النسيان”، الناتج ربما عن نقص في المعطيات، لم تسلم منه حتى بعض الجهات الممثلة في خرائط الكتاب. نلمس ذلك على سيبل المثال لا الحصر، من خلال تفحص المعطيات في الخرائط، وفي الكتاب ككل، عن الحركة الجهادية التي تزعمها الشيخ المجاهد ماء العينين. ففي الخريطة رقم 30 مكرر، الواردة في فصل الحماية (ص 539) إشارة أو علامة تشير إلى أن السمارة (الساقية الحمراء) من “أهم معاقل المقاومة”. لكن الفصل بأكمله لم يذكر شيئا عنها أو عن زعيمها، باستثناء الإشارة الواردة في سياق الحديث عن ابنه الشيخ المجاهد أحمد الهيبة، وهي تشير فقط إلى أنه “مرابط صحراوي” توفي بتزنيت في أكتوبر 1910. أما الخريطة رقم 29، المثبتة في الفصل الثامن (ص 505)، والمتعلقة بـ” التغلغل الأوربي بالمغرب 1884-1911، فلا أثر فيها لحركة ماء العينين، بالرغم من أهميتها، من الناحية الجهادية والجيوسياسية. والغريب أن بصمات هذه الحركة لم تمح من الخريطة فحسب، بل من الكتاب ككل! بالرغم من أنها ترمز بقوة لذلك التفاعل القوي، المتحدث عنه في الكتاب، بين المجال والهوية والتاريخ. وبالرغم من ذلك، فإن الفصلين اللذين ظلا،على غرار الفصول الأخرى، وفيين لخطة منهجية هدفها “الأول، … إنارة الوقائع الظرفية قبل غيرها…”(الخاتمة، ص 733)، يتضمنان الكثير من الإيجابيات والمزايا. نلمس ذلك، من خلال المعطيات الغزيرة المقدمة والاجتهادات المعبر عنها في مجال التحقيب والتوثيق المصدري والإيقونوغرافي… وعلى العموم. فإنهما حلقتان في كتاب يعد، في رأيي، بادرة طلائعية محمودة ولبنة مدعمة لصرح الكتابة التاريخية. وهو يشكل من هذه الناحية امتدادا لتقاليد في الكتابة التاريخية المغربية، وحلقة في سيرورة تاريخية موشومة بما عرفه مغرب الاستقلال من إصدارات منشغلة بتاريخ المغرب العام ومعتمدة في أسلوبها ومنهجها، غالبا، على المقاربة الشمولية و الرؤية التجميعية. نذكر منها كتاب “المغرب عبر التاريخ” لإبراهيم حركات[7]، والمؤلف الجماعي السابق الذكر، الصادر سنة 1967،وكتابي بيرنار لوكَان[8]Bernard Luganوميشيل أبيبطبول Michel Abitbol[9]. وهناك أيضا كتاب عبد الله العروي، الصادر بالفرنسية، في سنة 1970، تحت عنوانHistoire du Maghreb. Un essai de synthèse[10]، الذي أدخل المغرب في سياق تاريخ المغارب، ومؤلَّف دانييل ريفي Daniel Rivet[11] الصادر سنة 2012، الذي يقدم نموذجا آخر في الكتابة التركيبية، تنبني على خلق تفاعل بين الثوابت والمتغيرات و التوفيق بين تاريخ الدول والتاريخ البنيوي، والمزج بين الحكي والتأمل في المحكي. وعموما، فإن هذه الكتابات، التي لا تخلو من اختلافات، مليئة بالمعطيات والإضافات التي من شأنها فتح آفاق جديدة أمام البحث التاريخي بالمغرب. [1]قراءة للفصلين الثامن والتاسع من كتاب تاريخ المغرب: تركيب وتحيين، الرباط- منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، 1911. [2]لكن هذا الفصل نفسه قدم معطيات تشير إلى ما أصاب هذا التصور، المبني على وحدة المجال واتساعه وانسجامه، من خلل والتباس. نلمس ذلك، على المستوى الاصطلاحي، من خلال تعميق النظر في معنى لفظ/مصطلح “الجنوب”، الوارد في الفصل. ففي سياق الحديث عن مؤشرات الحيوية الجهوية، ذُكر بأن “الجنوب المغربي” عرف صراعا شديدا بين ابن أبي محلي ويحيى الماحي وبوحسون السملالي (ص 393). يبدو الأمر هنا وكأن رقعة المغرب جنوبا قد انكمشت، لأن المقصود ب”الجنوب” في النص هو سوس. [3]انظر، مثالا على ذلك، “الخريطة رقم 1: المغرب في بداية القرن التاسع عشر”، في كتاب المغرب قبل الاستعمار:المجتمع والدولة والدين 1792-1822، للدكتور محمد المنصور. ترجمة محمد حبيدة، ط 2006 ( ص.25). رسم د. المنصور داخل إطار كبير خريطة للمغرب لا تتجاوز جنوبا وادي درعة. وفي إحدى زوايا الإطار، وضع خريطة صغيرة صماء (فارغة) تطابق حدودها المغرب الحالي. [4] Brignon (Jean), Amine (Abdeaziz), Boutaleb (Brahim), Martinet (Guy), et Rosenberger (Bernard), avec la collaboration de Terrasse (Michel), Histoire du Maroc, Hatier, Paris VI, Librairie Nationale, Casa, 1967. [5] انظر: https://groups.google.com/forum/#!topic/fayad61/YxpXz3mh8bA [6]المنوني(محمد)، مظاهر يقظة المغرب، الدار البيضاء- شركة النشر والتوزيع-المدارس، وبيروت- دار الغرب الإسلامي، 1985، ج 1، ص. 50-51. [7] الدار البيضاء- دار السلمي للنشر والطباعة، 3 أجزاء، 1965-1985. [8] Lugan (Bernard), L’histoire du Maroc: des origines a nos jours, Criterion, 1992, 2000, 2011. [9] Abitbol(Michel), Histoire du Maroc, Perrin, 2009 [10] François Maspero, Paris, 1970 [11] Rivet(Bernard), Histoire du Maroc, Fayard, Paris, 2012.