تمييز أصحاب المنازل الموبُوءَة:4

في المقالات الماضية تناولنا ظاهرة اجتماعية خاصة ارتبط ظهورها بانتشار الطَّاعون الأسود (الموت الأسود) يتعلق بالفرار أو ما يمكن أن نطلق عليه "الهجر العائلي" الذي تولَّد بالأساس عن انتشار الخوف من انتقال العدوى فاضحت المدينة الموبوءة تتميز عن غيرها بسمات رئيسية مميزة : * تمييز المنازل الموبُوءَة واصحابها: يقول المؤرخ فرانك ولسن (Frank Wilson) عن ذلك: "عُلِّمت المنازل بصليب أحمر وكلمات مثل "ارحمنا يا رب" أو بعمود يبلغ طوله عشرة أقدام تتدلى منهُ حزمة من القش خارج الباب الامامي..." في معظم المدن الأوروبية يتم تمييز المنازل الموبوءة التي يكون أحد افرادها مصاباً بالعدوى بتثبيت الصليب الأبيض أمام الأبواب الأمامية، أو عمود بطول عشرة أقدام تعلق فيه كومةٌ من القش، وفي مدينة تُوسكانيا الايطالية يتم تمييز المنازل برسم صليب أو وضع علامة إكس (X) أو صليب على شكل حرف (T) المعروف بصليب القديس انطوني يرسم على ورق أزرق أو أبيض يثبتُ على الباب. كما كتبت على الأبواب عبارات مثل: " ارحمنا يا رب" أو "ارحمهم يا رب" وبكتابة حروف مميزة مثل (P.P) التي تعني [الطاعون هنا] Plague Present أو "يسوع" و "المسيح" ويدوم التمييز أربعين (40) يوماً ... ولتمييز الناجين من العدوى بين الناس، فرضت الكنيسة في هولاندا مثلاً على المصابين النَّاجين حمل عصا بيضاء لمدة أربعين (40) يوماً أصبحت تعرف في جميع البلدان الأوروبية " عصا الطَّاعون البيضاء" وأصبحت بعد ذلك شارة مميزة للمفتشين عن البيوت الموبوءة. *تراكُم جثت الموتى في الشَّارع العام و الأعراض عن ـداء الواجب الانساني: تسبب الطاعون في صدمة نفسية غير مسبوقة في المجتمعات الاوروبية، وخوف "جماعي من العدوى " حيث أصبحت جثت ضحايا الوباء ترمى إلى الشارع العام دون احترام لحرمة الموت و الموتى حيث يرفض الناس من الأقارب أو الجيران خدمة المصاب، ورفض كذلك الاطباء و الحلاقين و المساعدين و ناقلي الموتى و حفاري القبور ... لذلك " كانت الجثث ترقد مهملة في المنازل، فلا قس و لا ابن ولا أب ولا أي ذي صلة كان يجرؤ على أن يقترب منها، لكنهم كانوا يدفعون الأجور الكبيرة للخدم لدفن الموتى. لقد ظلت منازل المرضى مفتوحة يكل المقتنيات الثمينة و الذهب و المجوهرات..." وللتخلص منها يتم رميها في الشارع العام ليقوم حفارو القبور بنقلها إلى المدافن الجماعية حيث يتم طمرهم بدون طقوس دينية لائقة بالبشر [مؤمن مسيحي تقي] اختفت المودة الاجتماعية بين الناس و عم الجفاء، واشتغل الناس بمخاوفهم دون الاكتراث بالآخر. لم يعد الاحسان و الرعاية بين الأصدقاء و الأحباء " لا يجرؤ الرجل على التحدث إلى أي شخص قضى أقاربه و قريباته من الوباء..." لم يعد فقدان القريب و الصديق مؤلماً. أصبحت اللامبالاة سلوكاً عادياً الأمر الذي دفع الكنيسة الكاثوليكية للتدخل لحث الناس على التآزر لصدِّ الداء، و وصفت التخلي عن المرضى، و رمي جثث الموتى في الشارع ب " السلوك المرعب" تارة و "عادة الشعوب الهمجية" المرفوضة تارة أخرى. كتب جيوفاني موريللي (G.Morelli) بأسى شديد: "مات كثير من الناس في الشارع و على المقاعد. تمَّ التخلي عنهم دون تقديم المساعدة أو السكينة للموتى من أي شخص. تركت الجثث دون دفن في الشارع لأن الأبناء و الأقارب و الجيران فروا من الروائح الكريهة ... حتى المصابون لم يتلقوا الخدمات حيث لم يأتي أحد لدفنهم..."