الشواطىء التي كانت لنا

الشواطىء التي كانت لنا  محمد الفحايم

الشواطىء التي كانت لنا

2010-0\06\

يتطاول الصرح بسوره الطويل،يبتلع الأراضي التي كانت فيما مضى،في ذلك الوقت الجميل، فضاءات عذراء عالية، عبارة عن هضبة شمّاء نهبط منها، فندرك الوادي ذا العمق البسيط الذي ينحدر صوب البحر.. كان الشباب من حينا يسمون هذا الشاطىء الذي لم يعد لنا، الشاطىء الذي ضاع إلى الأبد، يسمونه السعيدية..كان قطعة ممتدة من الرمل النقي، تحدها من الضفتين الشرقية والغربية صخور بحرية ذات أشكال عجيبة، مزيج من كهوف وتجاويف ومخروطات تبهج الناظر حين يتراجع البحر، وكان للشباب فيها مآرب شتى.

..الصرح الضخم الذي التهم شاطىء الأحلام الأولى والصبوات الأولى، الصرح الذي يلتوي كأفعى البوا، فيخنق ما أراه الآن ماثلا أمامي..ما أستعيده من البئر العميقة..أجلس على صخرة بمحاذاة أحجار السور الهائل السامق التي تنتهي عند الموج ، وضع على أعلاها علامة حمراء يتوسطها خط أبيض تشي بأن العبور ممنوع.. أتملّى الشاطىء السعيدي، أرنو إلى رمله النقي الألاّق، تهفو نفسي إلى تلك الصخور الملساء الناعمة، فأتذكر اسما حفرته ذات مساء خريفي بعد أن استقللت الحافلة رقم12 ،وقد انتهت حصة الفرنسية بثانوية يوسف بن تاشفين، وفرغت مدام لاسوفتا من شرح مقطع من 'طفولتي' سيرة مكسيم جوركي الشهيرة التي كانت مفتونة بها.. حفرته على صخرة ملداء(م.ف 1980).. أسترجع شطرا للملك الضليل:' لمن طلل أبصرته فشجاني'

2

أستعيد صورة الصياد العجوز ذي اللحية البيضاء والبنية الصلبة كأرغانة رغم غزو الشيب والتجاعيد، الصياد الذي كان يشبه صورة همنغواي، كان الساحل الصخري لشاطىء السعيدية مكانه الأثير لصيد السمك.. كنت ،في ذلك الزمن البعيد، أقرأ رواية ' مزيفو النقود' لأندريه جيد، وبعد أن أمضي قدما في القراءة أتوقف لأنظر إليه..كان يقف لساعات قبالة البحر شامخا كنخلة ، وقد يعود إلى' أورير' بسلته فارغة، لكنه لا يكلّ.. يعود في اليوم الآخر فتنقض القصبة على سمكة فضية تلمع تحت شمس تموز اللاهبة، فينشرح لرؤيتها وهي تقفز في الهواء والخيط يشدّها، يجذبها، تحاول الفرار والعودة إلى البحر..ينزع الصنارة من فمها ويضعها في السلة، ترقص لبعض الوقت فتتوقف هامدة.. 

3

على شاشة الذاكرة تطفو الأجساد الرومية الناعمة الفتخاء وهي تستلقي على رمل الشاطىء اللين الرخص، لها طعم التين الأخضر الناضج ولون الشوكولاته، تمتد وهي تتحرر من كل شيء إلا من شريط ثوب مرهف يغور بين الضفتين الممتلئتين الرطبتين.. تمتح الأجساد غذاء كافيا من أشعة الشمس.. نستلقي بدورنا على الرمل الساخن.. تحل أجسادنا فيه.. ندّعي النوم أو التزود بحمّام شمس، بينا نحن نختلس النظر إليها..تنهض أشياؤنا من سباتها.. نداريها بالغوص في الرمل..يستبدّ الغم بنا..فلا نجد مناص من إطفاء لهب الرغبة في الإرتماء في موج اليمّ البارد..

4

صورة 'برنار' الذي كان يختصر بمنظره البوهيمي عناصر الزمن الهيبي : لحية شقراء وشعر طويل ينسدل على كتفيه وسروال الجينز الذي حال لونه، يمصّ لفافة المخدر وأصابعه تعزف لحنا على قيثارته التي لا تفارقه، ينعم برحابة المكان وبعذريته التي لم تغتصبها، لم تطأها ،في ذلك الزمن البعيد، أرجل البدو الفطحاء ذوي الأعقاب المتشققة، بكروشهم المتدلية كامرأة حامل في شهرها التاسع..يمشون الآن على الشاطىء، متثاقلين، كطيور البطريق..يبللون سيقانهم المكتنزة من فرط الكسل والعجز كأبقار هولندية سمان..يبللونها في تعاقب الموج الهادىء الذي يعدم، الآن، سيقاننا النحيلة المدقوقة لكن الصلبة، حين كنا نراهن على من يفوز بالسباق جريا في الماء..الموج الذي أراه يهدر وهو يلعن البترودولار..

'برنار' الذي كان الشباب من حّينا يحفّون به في كرفانته التي تآكل طلاء إطارها أو في البيت الذي بني من حجارة وطين شرق فيلا 'الحاج' ..أتذكر، ألآن ،'برنار' وهو يقرأ 'في الطريق' لجاك كيرواك ، الرواية التي قرأها عدة مرات، كما قال لي.. صخب الموج وعنف الريح البحرية الباردة التي تذرو الرمل..ريح الشرقي الباردة التي كنا نسعد بهبوبها، لأنها تخلي الشاطىء إلا منا نحن.. وكنا نخلع كل شيء فنرتمي في البحر،عراة،كما وضعتنا أمهاتنا..زمان 'البوهالا'، أينه الآن؟ ياحسرة'

5

يهطل المطر..يهطل بغزارة..تنحدر السيول قوية من الجبل، تجرف التربة وتحمل حطام الأشجار نحو البحر..تعوي الريح عاتية في الخارج..تلعلع كما لا يلعلع الرصاص في حرب ضروس ..يرتفع الموج ..يحمرّ ماء البحر..يصخب الموج ويمتد..يشارف علوه أمتارا فيضحي هائلا مرعبا..يصفع حيطان الصرح بشدّة..يضربه بعنف وقوة..يتكرر هذا الإصطدام، يحدث صوتا قويا كالهزيم..الصخب والعنف يتعاوران..المطر لا يتوقف عن الهطول.. والسيول التي تنحدر من الجبل المقابل للصرح تهزم أسواره، تحدث فيها صدوعا يتسرب الماء والوحل منها، والموج الآتي من البحر تنفذ أمواجه إلى داخل الصرح وزبدها يتطاير.. يهدر البحر ويزمجر، يتهدج صوته..

المطر يهدأ، والعاصفة تتوقف، الصرح يمّحي من الوجود، أسواره المنيعة دارسة الآن..

مبتهجا أخرج جذلا أعدو إلى الشاطئ، أرى العلامة الحمراء التي كانت تمنعنا من العبور، يحملها موج البحر بعيدا تترنح فوق حسيرة.. أرى الشاطئ أمامي وقد امتد صافيا نقيا تطأه قدماي بعد عشرين سنة من المنع والحصار، لا أرى فيه آثار الأقدام الفطحاء، أركض وأسرع في الركض بين ضفتيه الصخريتين، أحضنه، تضمخني رائحته، تنعش روحي الظمأى إليه، أقبله كما أقبل وجه أمي التي انطفأت قبل الأوان، وحين أجهد.. أتوقف ثم أمشي على الصخور الملساء الممتدة أنقب عن إسمي الذي نقشته على الصخر، وشمته ذكرى حية ذات مساء خريفي، فيما كانت نوارس بيضاء، تتهادى فوق الرمل الذي غسله الموج والمطر. 

أسمع صراخا في الزنقة، تهديدا بالإنتقام.. أستيقظ مذعورا من نومي.. أطل من النافذة فأتعرف عل ' ولد المريضة' صاحب الصوت.. أعود فأستلقي.. يجافي النوم عيني.. أنهض ثم أفتح الكتاب الذي كنت أقرأ قبل النوم.. أقرأ المقطع التالي: / أقدام فلاحين مقتلعين من أراضيهم، صورة الأرض التي تمضي، التي تهاجر، الأرض التي تفرط في قطع من تربتها الطيبة.. عذبة هي أرض الإجداد، وليس لها من ثمن، وكل ما عداها مر المذاق، فكيف التخلي هكذا، ومن دون القيام بشئ../ رواية 'البابا الأخضر' ل ميغيل أستو رياس.

#بقلم: محمد الفحايم.