في أصول قبائل برغواطة

في أصول قبائل برغواطة

اختلف المؤرخون في أصل قبائل برغواطة، فاكتفى ابن حوقل بالقول أن برغواطة "قبيل من قبائل البربر على البحر المحيط" (ابن حوقل، كتاب صورة الأرض، ص 81-81)، وكذلك فعل ابن عذاري مؤكدا أن تامسنا "كانت بلاد بعض قبائل البربر" (ابن عذاري، البيان المغرب، ج1 ص 57.)، ولا نقاش في هذا، ولكن جوهر الاختلاف بين المؤرخين يتمثل في ما إذا كانت هذه القبائل زناتية، أم مصمودية، أم أن التسمية لا تمثل قبيلة بعينها؟ غلب على رأي المؤرخين إرجاع نسب البرغواطيين إلى زناتة، فيرى البكري أن إقليم تامسنا كان مرتعا لقبائل زناتة وزواغة؛ في ما نقله عن زمور، و في رواية المدحجي أن القوم من زنانة (البكري، المسالك والممالك، ج2 ص 819 – 823)، و كذلك عند صاحب الاستبصار (مؤلف مجهول، كتاب الاستبصار، ص197)، وابن الخطيب (لسان الدين بن الخطيب، القسم الثالث من أعمال الأعمال ص 180). لكن ابن خلدون يجابه هذه الآراء؛ ويقول في معرض حديثه على أصل البرغواطيين ردا عن من نسبهم إلى زناتة: "و قد نقل بعض الناس في نسب برغواطة فبعضهم يعده في قبائل زناتية،(...) وهو من الأغاليط البينة وليس القوم من زناتة ويشهد لذلك موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة". ثم يضيف أن برغواطة هم الجيل الأول من المصامدة، كان لهم في صدر الإسلام التقدم والكثرة وكانوا شعوبا كثيرة متفرقين، وكانت مواطنهم في بسائط تامسنا، وريف البحر المحيط، من سلا وأزمور وأنفا وآسفي (ابن خلدون، العبر، ج6 ص ص 276-280). ومقابل ذلك كله جاء ابن أبي زرع برواية ثالثة يقول فيها: "ان برغواطة قبائل كثيرة ليس لهم أب واحد وأم واحدة وإنما هم أخلاط من قبائل شتى من البربر اجتمعوا إلى صالح بن طريف القائم بتامسنا حين ادعى النبوءة في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان." (ابن ابي زرع، الانيس المطرب، ص 130). ويسير الناصري على منواله ويقول: " والتحقيق أن برغواطة قبائل شتى ليس يجمعهم أب واحد وإنما هم أخلاط من البربر اجتمعوا إلى صالح بن طريف الذي ادعى النبوة بتامسنا سنة خمس وعشرون و مائة للهجرة.." (الناصري، كتاب الاستقصا، ج2 ص )16.. وإذا تأملنا هذا القول، نجد أن ابن أبي زرع والناصري يربطان وجود القبائل البرغواطية بظهور الدين البرغواطي؛ بمعنى أن هذه القبائل كانت وليدة هذا الدين، ونشأت أساسا عن هذه الدعوة الدينية، التي ميزتها عن غيرها وليس على أسس قبلية. وقد انساق وراء هذا الطرح العديد من الباحثين أمثال عبد الوهاب بن منصور الذي يؤكد أن لفظة برغواطة ليست لها دلالة سلالية، وإنما تدل على نحلة دينية؛ أطلقت على القبائل التي اتبعتها فقيل لها برغواطة كما يقال للشيعة والخوارج والمعتزلة (إبراهيم خلف العبيدي: البرغواطيون في المغرب، ص 46). ويضيف محمد الطالبي سائرا على نفس المنوال، أن البرغواطيين يتحددون بنحلتهم الدينية أكثر مما يتحددون بانتمائهم القبلي. مؤكدا أنهم لم يكونوا قبيلة وإنما شكلوا طائفة دينية (محمد الطالبي، البرغواطيون في المغرب، البربر البرغزاطيين: البدعة و المثاقفة و النزعة الوطنية. ص ص12 -13). إن هذا الرأي يحتاج إلى بعض التأمل والتمحيص، إذ يجب أن نعلم انه إذا أخذنا به فإننا نقر إذ ذاك بأن برغواطة لم تظهر كقبيلة قائمة الذات إلا بعد بروز الديانة البرغواطية. وهذا احتمال مستبعد جدا، ولا يحتاج منا إلى الكثير من التفكير لدحضه. فالحق أن وجود برغواطة أقدم من ذلك بكثير، فقد انخرطت - بقيادة زعيمها طريف- في ثورة الخوارج الصفرية تحت لواء ميسرة، زد على ذلك أن رأي محمد الطالبي هذا بربط وجود برغواطة ببروز دينها، والتأكيد في مرحلة أخرى على أن مبتدع الديانة البرغواطية ليس صالح بن طريف وإنما حفيده يونس (محمد الطالبي، م.س، ص 15 – 16.) ، يجعل الباحث يتيه بين أقوال هذا المفكر، بل ويجعل في كلامه نوعا من التناقض والتضارب؛ إذ جعل من دين برغواطة ذلك الرحم الذي أنجب هذه القبيلة؛ التي تطورت وأصبحت مملكة، تم أخر ظهور هذا الدين إلى عهد رابع أمرائها. حاول هذا المفكر جعل رواية ابن أبي زرع، والناصري، أكثر واقعية وأكد أن المذهب الصفري هو الذي كان الحافز الأولي الذي وحد برغواطة(محمد الطالبي، م.س، ص13). ولكن من المعلوم أن جل قبائل المغربين الأقصى والأوسط قد اعتنقت هذا المذهب محمود إسماعيل، الخوارج في بلاد المغرب، ص 69)، وليس برغواطة لوحدها. وهذا يدفعنا للتساؤل، عما كان إذن هذا الشيء الذي ميز برغواطة عن باقي معتنقي هذا المذهب؟ قد يقول قائل أن برغواطة تميزت بموقف اتخذته من الثورة، جراء مقتل ميسرة من طرف بعض معارضيه، فاختارت الانسحاب من الثورة وتبنت موقفا سلبيا منها وتقوقعت حول نفسها فكان ذلك الحافز الذي وحدها، وميزها عن غيرها. ولكن بالإضافة إلى كون ذلك غير كاف لتحقيق الوحدة والتميز. نجد الطالبي نفسه يرجح الرواية التي تفيد أن طريف واصل القتال في صفوف الصفرية، إلى ما بعد مقتل ميسرة، وكان من جملة قواد الجيش المنهزم بالقيروان(محمد الطالبي، م.س، ص 9). و يفيد ذلك أن صفرية برغواطة لم تنسحب من الثورة. وعلى هذا الأساس فالمذهب الصفري لم يكن حكرا على برغواطة حتى نقول انه كان الحافز الذي وحدها، كما لم تكن لها مواقف تميزها عن باقي معتنقي هذا المذهب؛ وحتى إذا كان لها موقفا معينا فلن يكون كافيا لإنشاء وحدة من أساسها، بقدر ما سيعمل على إذكاء وتأطير عصبية قبلية موجودة أصلا. ولإعطاء مثال على ذلك لن نذهب بعيدا لا من حيث الزمن ولا من حيث المكان إذ عرفت سجلماسة بعيد قيام برغواطة وتحديدا مطلع العقد الخامس من القرن الثاني الهجري قيام دولة شبيهة بالدولة البرغواطية من حيث عناصر التأسيس وهي إمارة بني مدرار الصفرية، التي قامت على أكتاف عصبية مكناسة، بعدما شاركت هذه الأخيرة – على غرار قبيلة برغواطة- تحت إمرة زعيمها أبي القاسم سمكو في ثورة الخوارج الكبرى عام 121هـ (ابن خلدون، العبر، ج 6 ص ص ص 129-130،) تم انسحبت من الثورة وعملت على نشر المذهب الصفري في الجنوب المغربي استعدادا لتأسيس دولة صفرية خالصة، وتحقق ذلك على أكتاف عصبية مكناسة (محمود إسماعيل، الخوارج في بلاد المغرب، ص 113). ولعلها صورة مصغرة فقط من الصور العديدة التي تعكس الدور الحاسم الذي كانت تلعبه العصبية القبلية في قيام الدول في مغرب العصر الوسيط، وتطرق لها ابن خلدون في نظريته حول قيام الدول (ابن خلدون: المقدمة، ص 201-207). وقد تبث بالملموس صحة هذه النظرية في كل الدول التي تأسست في العصر الوسيط، وإن كان الإسقاط الأكثر استهلاكا لها من طرف الباحثين يكون على الدول الإمبراطورية (المرابطين، الموحدين) ولكن يبدو أن هذه الدويلات والإمارات أيضا انطبقت عليها النظرية كثيرا؛ فمن الصعوبة بمكان نجاح الدعوة الدينية إلى المذهب الصفري قصد تأسيس إمارة من دون توفر عصبية قبلية، لذلك اعتمدت الدعوة الدينية لهذا المذهب في تامسنا على عصبية برغواطة وفي سجلماسة على عصبية مكناسة. وقد يقول البعض أن نظرية ابن خلدون ليست قاعدة ثابتة، ويستشهد على ذلك مثلا بالدولة الرستمية التي تأسست على الدعوة إلى المذهب الإباضي دون اللجوء إلى أي عصبية قبلية، ولكن الأمر بالنسبة للدولة الرستمية مختلف تماما عما ذكرته سلفا، فقد خلقت الاستثناء وتعمدت استبعاد العصبية القبلية مند البداية. كانت ثورة الاباضية مختلفة تماما عن ثورة الصفرية بل كانت أكثر تنظيما منها؛ إذ رحل وفد من زعماء الاباضية من المغرب الأدنى إلى البصرة للاسترشاد بمشايخ المذهب في الإعداد للثورة ومكث هناك خمس سنوات تم عاد الوفد إلى المغرب ونجح في توحيد صفوف الإباضية وتكثيف جهودها، ولتفادي الصراعات القبلية أشار أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة للوفد على اختيار أحد زعماء المذهب من عرب المشارقة لزعامتهم وهو أبو الخطاب عبد الأعلى المغافري الذي بويع بعد ذلك بالامامة (محمود إسماعيل، م.س، ص 85). وبعد وفاة هذا الأخير بويع بها عبد الرحمان بن رستم، ولم يكن هو الآخر بربريا بل كان فارسيا (محمود إسماعيل، م.س، ص 145). ولعل ذلك هو ما جنب الاباضية خطر الصراعات القبلية وأتاح تأسيس الدولة دون عصبية قبلية إذ كان المذهب الاباضي الرابطة الوحيدة التي جمعت بين مختلف العصبيات لذلك لم تظهر الصراعات القبلية إلا عندما تحولت الإمامة إلى ملك (محمود إسماعيل، الخوارج في بلاد المغرب، ص 170). وعلى عكس ذلك يتضح جليا أن القبيلة كانت عنصرا مهما في الدعوة إلى المذهب الصفري مند البدايات الأولى فمعظم القبائل تناولت المذهب بصفة مستقلة عن طريق زعمائها الذين لقوا عكرمة بالقيروان. تم توحدت هذه القبائل تحت إمرة قائد واحد وهو ميسرة المطغري لكن الصراعات القبلية ظلت قائمة فيقال أن برغواطة انسحبت بعد نزع القيادة من مطغرة، كما انسحبت مكناسة بعد تولي زناتة قيادة الثورة، فكان من الصعب توحيد مختلف هذه العناصر في دولة واحدة في ضل كل هذه الخلافات والصراعات، خاصة أن الصفرية اشتهروا بكثرة الجدال والخصام (عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، ج1 ص 145). ومنه فإن قيام دولة صفرية معينة كان يحتاج إلى عصبية قبلية لخلق التميز عن باقي معتنقي هذا المذهب. وهذا يقود إلى التأكيد مرة أخرى على أن قبيلة برغواطة قبيلة قائمة الذات وجدت قبل دينها، وكذلك قبل ثورة الخوارج. ولم تكن أبدا نتاج دعوة دينية لا في طابعها المذهبي ( المذهب الصفري) ولا العقائدي (الدين البرغواطي). ولكن وجب الإشارة إلى أن الدين البرغواطي هو الذي قضى على العصبية القبلية البرغواطية،عندما استتب الأمر لورثة صالح بن طريف وبدأ الإشهار بهذا الدين، وشرع في نشره، وبدأ اتساع رقعة المملكة. إذ أصبح اسم "برغواطي" يطلق على كل من اعتنق هذا الدين فانتقل من دلالة قبلية، إلى دلالة دينية. ومن تم أصبحت برغواطة مزيجا من القبائل اعتبارا لمن دان بالدين البرغواطي من غير برغواطة. إن هذه النتيجة تعيدنا إلى نقاش ما إدا كانت برغواطة زناتية أم مصمودية الذي سبق الإشارة إلى أطرافه، والحق أن قول ابن خلدون (ابن خلدون، العبر، ج6 ص ص 276-280) يستحق الوقوف عنده ما دامت مصامدة المغرب قد كانت تحتل معظم السهول الأطلسية، و سوس و القسم الغربي من منطقة الريف. و جورج كولان يقسم المصامدة إلى ثلاث مجموعات الأولى في الشمال من البحر المتوسط إلى سبو؛ وتسكن فيه غمارة، والثانية في الوسط من سبو إلى أم الربيع؛ وتسكن فيه برغواطة ، والثالثة في الجنوب من أم الربيع إلى الأطلس؛ حيث تسكن مصمودة بالمعنى المحدد. ويشير أن كل بطن من هذه البطون ولد حركة دينية وسياسية فمصامدة الشمال ظهرت فيهم ديانة غمارة، ومصامدة الوسط ظهرت فيهم ديانة برغواطة، ومصامدة الجنوب ظهرت فيهم حركة الموحدين (إبراهيم خلف العبيدي: البرغواطيون في المغرب (127-542هـ) ص 46). ومن الإشارات التي تدفع إلى الاستخفاف برأي البكري (البكري، المسالك والممالك، ج2 ص819 ص823) وصاحب الاستبصار (مؤلف مجهول: كتاب الاستبصار. ص197) في إرجاع نسب البرغواطيين إلى زناتة هي تلك الإشارة التي تناولتها المصادر بكثرة والتي تفيد أن برغواطة انسحبت من الثورة لما قتل ميسرة المطغري وأسندت القيادة لزناتة (ابن عذاري، البيان المغرب، ج1 ص 223 . البكري، المسالك والممالك، ج2 ص 819)، ويبدو انه ما من داع يجعل برغواطة تنسحب من ثورة تتزعمها لو كانت بالفعل قبيلة زناتية. أما في ما يخص التسمية فقد طغى على الروايات إرجاع أصلها إلى مسقط رأس طريف بوادي برباط من حصن شدونة بالأندلس، فقيل أنه أطلق لفظ برباطي على كل من اعتنق هذا الدين، نسبة إلى أصل زعيم الدعوة، تم حرفت الكلمة على ألسنة العرب فقالوا برغواطي (ابن أبي زرع، الانيس المطرب، ص 130. البكري، السالك والممالك، ج2 ص 823). وبالمقابل نجد ابن خلدون (ابن خلدون، العبر، ج6 ص 445) .مرة أخرى يواجه الذين تبنوا هذا الطرح بكثير من التساهل. ويؤيده في ذلك الدكتور إبراهيم حركات مؤكدا أن ابن خلدون محق في الاستخفاف بمن يرد نسب برغواطة إلى برباط، وربطها بأصل صالح بن طريف، لأن برغواطة قبيلة كبيرة عرفت كذلك قبل الزحف الإسلامي. ويضيف أيضا انه ليست لها علاقة بـ"الباكات" الذين يحتمل أن المقصود بهم (بقيوة)؛ التي كانت ذات وزن وانتشار شمال المغرب أيام الرومان. ويختم كلامه في هذا الصدد بالقول: "والأنسب رد مصطلح "برغواطة" إلى "بركوتن" –بكاف معقودة- التي تعني التنطع والتمرد كما يشير إلى ذلك باحث معاصر" (إبراهيم حركات، معلمة المغرب، مادة برغواطة،ج4 ص 1166). بينما يشير احمد توفيق في تعليقه على برغواطة بان الأصل الصحيح لهذه التسمية هو يلغواطن أو الغواطن وهي صيغة جمع وعند تعريبها تستبدل النون الأخيرة بتاء كما يقال في إزناكن : صنهاجة، و في إمصمودن: مصمودة، ويضيف أن معنى الغواطن هو: المنحرفون. (ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف، الهامش 37 ص 52).