الإبستمولوجيا والعلوم:4

الإبستمولوجيا والعلوم:4

للحديث عن الأثر الإبستمولوجي، لابد من ذكر الفرق الحاصل بين الخطاب الفلسفي والخطاب العلمي، ثم لابد كذلك من الحديث عن تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم وإبراز سبب ظهور الإبستمولوجيا كمبحث يهتم بالخطاب العلمي. الخطاب العلمي كما ذكرت في المقال الأول من هذا البحث هو موضوع الإبستمولوجيا، تهتم هذه الأخيرة بالخطاب العلمي نظرا لأنه يطرح قضايا علمية جديدة، كما أنه خطاب متجدد يشهد تقدما بفعل الثورات العلمية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين . فبعد ظهور هذه الثورات لم يعد للفلاسفة والمفكرين سوى مواكبة مستجدات هذه الثورات العلمية، فاصبحت مهمة الفيلسوف هي نقد ودراسة الخطاب العلمي وتحديد مبادئ وفرضيات العلوم ونتائجها هذه الدراسة التي هي عمل الفيلسوف هي الإبستمولوجيا أو ما يسمى بالفلسفة العلمية وهذه الأخيرة تختلف تمام الإختلاف عن الخطابات الفلسفية الكلاسيكية والحديثة، بحيث أن الخطابات الفلسفية هي مجرد تأويلات وتأملات عن الوجود بمختلف أشكاله، هدفها هو توحيد المعرفة في قالب واحد أو مذهب مغلق. وتاريخ الفلسفة كما هو معروف هو تاريخ المذاهب الكبرى كمذهب أفلاطون المتالي أو مذهب أرسطو الواقعي، وبفضل هذه المذاهب يجد الفلاسفة العودة إليها لإبداع وصياغة نظريات وأنساق فلسفية في شكل آخر. أما تاريخ العلم فهو مجموعة من النظريات أو بالأحرى هو مسلسل من النظريات، وهذا التاريخ في طبيعته مخالف لتاريخ الفلسفة، لأن ميلاد نظرية جديدة لا يتم إلا بموت مجموعة من النظريات الأخريات. في ظل هذا الإختلاف الحاصل بين الفلسفة والعلم أو الخطاب العلمي، ظهرت الإبستمولوجيا واهتمت بالخطاب العلمي لتبرز القيم التي جاء بها العلم، إهتمت بالخطاب العلمي بعد ما عجزت الفلسفة بمذاهبها على تفسير ما توصل إليه العلم. وقد جاء مبحث الإبستمولوجيا على شكل ثورة على الفكر الفلسفي بصفة عامة، رغم أنه فلسفة لكن مختلفة ومتميزة تسعى إلى التجديد في الفكر الفلسفي، وتنقسم الإبستمولوجيا إلى قسمين، خاصة وعامة يقول عابد الجابري:"إن مبحث الإبستمولوجيا الخاصة يمكن أن نميز فيه بين اتجاهين :أنصار الإبستمولوجيا الخاصة (الداخلية) وانصار الإبستمولوجيا العامة " أ‌)أنصار الإبستمولوجيا الخاصة : يقول عابد الجابري "إن أنصار هذا الاتجاه ينطلق في الغالب من كون القضايا والمشاكل المبدئية أو المنهجية، التي تخص علما من العلوم، قد لا تخص بالضرورة علما آخر " بمعنى أن التي تهتم بها الرياضيات مثلا، ليست بقضايا علم الفيزياء، وأن مشاكل الكيمباء، ليست بمشاكل البيولوجيا . وبعد الجمع بين العلوم عند أنصار هذا الإتجاه هو علم فلسفي محض لأن لكل علم قضاياه ومناهجه ومشاكله التي يهتم بها. ب)أنصار الإبستمولوجيا العامة : على خلاف التصور الأول فهؤلاء يرون أن العلوم متداخلة ومتشابكة فيما بينها، وأن للعلوم بعضها البعض علاقة وطيدة فالفيزياء لا يمكن أن تنفصل عن الرياضيات والعكس صحيح، كما أن الكيمياء مرتبطة أشد الإرتباط بالفيزياء فنذكر أن هذه العلاقة القائمة بين العلوم في نظر أنصار هذا الإتجاه، مجرد عمل تعسفي، ويمكن أن نستنتج أن أنصار الإتجاه الأول الداعي إلى عدم وحدة العلوم، حريصين على أن لا يكون أي تدخل فلسفي في العلوم، لكن لابد للإبستمولوجيا أن تعتمد على العلاقة بين العلوم، وأن تستعين بعلوم أخرى لدراسة قيمة النظريات العلمية فكاستون باشلار في كتابه "العقلانية المطلقة " يدعو إلى اتخاذ التحليل النفسي كمنهج لدراسة النظريات العلمية. ويمكن أن أخلص إلى أن مبحث الإبستمولوجيا ظهر بعد الثورات العلمية، وقد ظهر كفلسفة علمية ثارت على جل الخطابات الفلسفية على اعتبار أن هذه الخطابات مجرد عائق معرفي لا يبرز إلا اديولوجيات المفكرين والفلاسفة، ولا يمكن أن يغني العلم بشيء، ولا يمكن كذلك أن يتوصل إلى حقائق كطلقة كما يعتقد الفلاسفة، وعلى الفيلسوف الحق أن يواكب مستجدات العلوم، وأن يخرج من ثنائية المذاهب العلقي المثالي والواقعي التجريبي، وأن يتخلى عن نظام المقولات الجاهزة لأن العلم خطى خطوة كبيرة، وأصبحت المفاهيم والمناهج والقوانين المعتادة والمألوفة لا يمكن أن تفيد الباحث في التوصل إلى تفسير ما توصل إليه العلم الحديث، بل يجب أن تتغير كل أساليب البحث، هكذا خاطب الفكر الإبستمولوجي الفكر الفلسفي. يقول كاستون باشلار " من البديهي أن العالم يعجز بعد اليوم أن يكون واقعيا أو عقليا، على طريقة الفلاسفة الذين كانوا يؤمنون بقدرتهم على الوقوف دفعة واحدة أمام (الموجود) المدرك إما في غزارته أو كثرته الخارجية أو في وحدته الصميمية . والموجود لا يدرك في نظر العالم دفعة واحدة لا في التجربة ولا في العقل" يتضح لنا من هذا الكلام لباشلار أن الفلاسفة يظنون أنهم قادرون على إدراك الموجود، لكن الموجود لا يمكن أن يدرك كما يعتقدون، سواء عن طريق التأمل العقلي أو عن طريق التجربة، فإدراك حقيقة الموجودات بمختلف أشكالها أمر صعب، والعقل والتجربة تعجز أمام حقيقة الموجودات بآليات وأساليب متقدمة ولا يتوصلون إلا افتراضات، لأن كل الموجودات ليست بتلك البساطة التي يعتقدها الفلاسفة.